فصل: الحديث التَّاسِع عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث السَّابِع عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ رَوَوْهُ كلهم من حَدِيث عَائِشَة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَ الْحَاكِم: وأظن أَنَّهُمَا لم يخرجَاهُ لخلاف فِيهِ عَلَى قَتَادَة، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار».
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه أَيْضا بِلَفْظ: «لَا يقبل الله صَلَاة امْرَأَة قد حَاضَت إِلَّا بخمار». وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه أَيْضا عَن ابْن خُزَيْمَة بِهِ سَوَاء، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن قَتَادَة، عَن ابْن سِيرِين، عَن صَفِيَّة بنت الْحَارِث، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَعَن قَتَادَة مَوْقُوفا. وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَهِشَام بن حسان، عَن ابْن سِيرِين مُرْسلا، عَن عَائِشَة أَنَّهَا نزلت عَلَى صَفِيَّة حدثتها بذلك ووقفا الحَدِيث، وقولهما أشبه بِالصَّوَابِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بعد أَن رَوَى هَذَا الحَدِيث: قَالَ ابْن أبي عَاصِم: أَرَادَ بِالْحيضِ: الْبلُوغ. قلت: لابد من ذَلِك فَإِنَّهُ؛ لم يرد بِهِ الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ فِي أَيَّام حَيْضَتهَا؛ فَإِن الْحَائِض لَا تصح صلَاتهَا بِوَجْه من الْوُجُوه، وَمِمَّا يُوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يقبل الله من امْرَأَة صَلَاة حَتَّى تواري زينتها، وَلَا من جَارِيَة بلغت الْمَحِيض حَتَّى تختمر». قَالَ الطَّبَرَانِيّ لم يروه عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَّا عَمْرو بن هَاشم الْبَيْرُوتِي، تفرد بِهِ إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن عبد الْأَعْلَى الْأَيْلِي. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: رُوِيَ «لَا يقبل الله صَلَاة امْرَأَة تحيض إِلَّا بخمار». فوضح أَن المُرَاد بالحائض من بلغت، سميت حَائِضًا لبلوغها سنّ الْحيض، وَمن عبر بِأَن المُرَاد بالحائض الَّتِي بلغت سنّ الْحيض فَفِيهِ تساهل؛ لِأَنَّهَا قد تبلغ سنّ الْحيض وَلَا تبلغ الْبلُوغ الشَّرْعِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَفِي هَذَا الحَدِيث كالدلالة عَلَى توجه الْفَرْض عَلَيْهَا إِذا بلغت بِالْحيضِ. ثمَّ التَّقْيِيد بالحائض جَرَى مجْرى الْغَالِب، وَهِي أَن الَّتِي دون الْبلُوغ لَا تصلي وَإِلَّا فَلَا تقبل صَلَاة المميزة إِلَّا بخمار، ثمَّ لَا يخْفَى تَخْصِيص الحَدِيث بِالْحرَّةِ؛ فَإِن الْأمة تصح صلَاتهَا مكشوفة الرَّأْس.

.الحديث الثَّامِن عشر:

عَن أبي أَيُّوب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مَا فَوق الرّكْبَة وَدون السُّرَّة عَورَة».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث سعيد بن رَاشد، عَن عباد بن كثير، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي أَيُّوب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «مَا فَوق الرُّكْبَتَيْنِ من الْعَوْرَة، وَمَا أَسْفَل السُّرَّة من الْعَوْرَة».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بِهَذَا الطَّرِيق من جِهَة الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف فسعيد بن رَاشد، وَعباد بن كثير مَتْرُوكَانِ، وَضَعفه الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بِسَعِيد فَقَالَ: سعيد بن رَاشد ضَعِيف، وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه بهما فَقَالَ: إنَّهُمَا مَتْرُوكَانِ، وَكَذَا صَاحب الإِمام فَقَالَ: قيل فِي كل مِنْهُمَا إِنَّه مَتْرُوك.
قلت: وَقَالَ ابْن عدي فِي سعيد: أَنه لَا يُتَابِعه عَلَى رِوَايَته أحد. قلت: وَعباد بن كثير اثْنَان فِي طبقَة وَاحِدَة: أَحدهمَا: الرملى وَالْجُمْهُور عَلَى تَركه، وَالثَّانِي: الثَّقَفِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ، وَقَالَ ابْن عدي: الرَّمْلِيّ خير من الْبَصْرِيّ.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الضُّعَفَاء: وَمن الْعلمَاء من ذهب إِلَى أَنَّهُمَا وَاحِد؛ وَلَيْسَ كَذَلِك.

.الحديث التَّاسِع عشر:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «عَورَة الرجل مَا بَين سرته وركبته».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، نَا دَاوُد، نَا عباد، عَن أبي عبد الله الشَّامي، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «عَورَة الرجل مَا بَين سرته إِلَى ركبته». وَذكر مَعَه أَحَادِيث، وَدَاوُد هَذَا هُوَ ابْن المحبر- بحاء مُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة- صَاحب كتاب الْعقل وَقد ضَعَّفُوهُ. وَأما يَحْيَى بن معِين فَقَالَ: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِيهِ: شبه الضَّعِيف.
وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم من حَدِيث أَحْمد بن الْمِقْدَام، عَن أَصْرَم بن حَوْشَب، عَن إِسْحَاق بن وَاصل، عَن أبي جَعْفَر الباقر، عَن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة عَورَة». ذكره فِي فَضَائِل عبد الله بن جَعْفَر، وَهُوَ حَدِيث مُنكر.
أَصْرَم بن حَوْشَب مُتَّهم تَركه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ يَحْيَى: كَذَّاب خَبِيث. وَإِسْحَاق بن وَاصل هَالك. قَالَ الْأَزْدِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث زائغ لَا جرم قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك: أَظن هَذَا الحَدِيث مَوْضُوعا، وَقَالَ فِي مِيزَانه: إِسْحَاق بن وَاصل، عَن أبي جَعْفَر الباقر من الهلكى، من بلاياه الَّتِي أوردهَا الْأَزْدِيّ مَرْفُوعا «من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة عَورَة»، وَهُوَ رِوَايَة أَصْرَم وَلَيْسَ بِثِقَة عَنهُ، وَهُوَ هَالك.
قلت: وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه بِلَفْظ الْحَاكِم قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو الْأَشْعَث أَحْمد بن الْمِقْدَام عَن الأصرم. قلت: وَأَبُو الْأَشْعَث هَذَا من فرسَان البُخَارِيّ، وَإِن لين لأجل مزاحه.
وَفِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث أبي حَمْزَة سوار بن دَاوُد الْمُزنِيّ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله: «مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع سِنِين، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر سِنِين، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع». ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث وَكِيع عَن دَاوُد بن سوار الْمُزنِيّ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ، وَزَاد «وَإِذا زوج أحدكُم خادمه عَبده أَو أجيره، فَلَا ينظر إِلَى مَا دون السُّرَّة وَفَوق الرّكْبَة». ثمَّ قَالَ: وهم وَكِيع فِي اسْمه، قَالَ: وَرَوَى عَنهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: ثَنَا أَبُو حَمْزَة سوار الصَّيْرَفِي.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بالسند الْمَذْكُور من طَرِيقين لَفظه فِي أَحدهمَا بعد «وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع، وَإِذا زوج أحدكُم عَبده أَو أمته أَو أجيره، فَلَا تنظر الْأمة إِلَى شَيْء من عَوْرَته، فَإِن تَحت السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة من الْعَوْرَة». وَلَفظه فِي الثَّانِي بعد «فِي الْمضَاجِع»: «وَإِذا زوج الرجل مِنْكُم عَبده أَو أجيره، فَلَا يرين مَا بَين ركبته وسرته، فَإِن مَا بَين سرته وركبته من عَوْرَته».
قلت: وسوار بن دَاوُد الْمَذْكُور وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يُتَابع عَلَى أَحَادِيثه يعْتَبر بِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بِلَفْظ أبي دَاوُد الْمُتَقَدّم، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أبي دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَيْمُون، ثَنَا الْوَلِيد، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن عمر بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا زوج أحدكُم عَبده أَو أمته أَو أجيره، فَلَا ينظرن إِلَى عورتها».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَن أبي دَاوُد إِذا قرنت بِهَذِهِ، دلنا عَلَى أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ نهي السَّيِّد عَن النّظر إِلَى عورتها إِذا زَوجهَا، وَأَن عَورَة الْأمة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة، وَسَائِر طرق الحَدِيث تدل، وَبَعضهَا ينص عَلَى أَن المُرَاد بِهِ نهي الْأمة عَن النّظر إِلَى عَورَة السَّيِّد بَعْدَمَا بلغا النِّكَاح، فَيكون الْخَبَر واردًا فِي مِقْدَار الْعَوْرَة من الرجل لَا فِي بَيَان قدرهَا من الْمَرْأَة، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك للْحَدِيث ألفاظًا أُخر، فَمِنْهَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ السالف وَمِنْهَا «وَإِذا زوج أحدكُم خادمه من عَبده أَو أجيره، فَلَا ينظرن إِلَى شَيْء من عَوْرَته فَإِن كل شَيْء أَسْفَل من سرته إِلَى ركبته من عَوْرَته». وَمِنْهَا «وَإِذا زوج أحدكُم أمته عَبده أَو أجيره، فَلَا تنظر إِلَى عَوْرَته، والعورة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة». ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب: فَأَما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، فقد اخْتلف فِي مَتنه فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي عَورَة الْأمة، وَإِن كَانَ يصلح الِاسْتِدْلَال بِهِ؛ يَعْنِي: فَيكون الحَدِيث واردًا فِي عَورَة الرجل.
تَنْبِيه: بيض النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالْمُنْذِرِي لحَدِيث أبي سعيد السالف بَيَاضًا وَلم يعزياه، وقَالَ بعض مَشَايِخنَا فِي بعض مصنفاته: إِنَّه لم يجده، وَلَا حَدِيث أبي أَيُّوب السالف أَيْضا، وَقد وجدناهما بِحَمْد الله وَمِنْه، فاستفد ذَلِك.

.الحديث العشْرُونَ:

«أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْمَرْأَة تصلي فِي درع وخمار من غير إِزَار؟ فَقَالَ: لَا بَأْس؛ إِذا كَانَ الدرْع سابغًا يغطى ظُهُور قدميها».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ من حَدِيث أم سَلمَة مَوْقُوفا عَلَيْهَا، عَن مُحَمَّد بن زيد بن قنفد، عَن أمه: «أَنَّهَا سَأَلت أم سَلمَة مَاذَا تصلي فِيهِ الْمَرْأَة من الثِّيَاب؟ فَقَالَت: تصلي فِي الْخمار، والدرع السابغ؛ إِذا غيبت ظُهُور قدميها».
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي، عَن مَالك هَكَذَا ثمَّ قَالَ: ثَنَا مُجَاهِد بن مُوسَى، نَا عُثْمَان بن عمر، نَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار، عَن مُحَمَّد بن زيد؛ بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: «عَن أم سَلمَة أَنَّهَا سَأَلت رَسُول أتصلى الْمَرْأَة فِي درع وخمار لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَار؟ قَالَ: إِذا كَانَ الدرْع سابغًا يُغطي ظُهُور قدميها». ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا الحَدِيث مَالك بن أنس، وَبكر بن مُضر، وَحَفْص بن غياث، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَابْن أبي ذِئْب، وَابْن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن زيد، عَن أمه، عَن أم سَلمَة لم يذكر أحد مِنْهُم النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قصروا بِهِ عَلَى أم سَلمَة.
وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: إِنَّه الصَّحِيح، وَأَن بَعضهم رَفعه. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه: هَذَا الحَدِيث فِي رَفعه مقَال؛ وَهُوَ أَن عبد الرَّحْمَن بن دِينَار ضعفه يَحْيَى، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ: وَالظَّاهِر أَنه غلط فِي رَفعه، ثمَّ اسْتدلَّ بِكَلَام أبي دَاوُد السالف. وَلَك أَن تَقول: عبد الرَّحْمَن وَإِن ضعفه يَحْيَى وَأَبُو حَاتِم فَلم يثبتا سَبَب ضعفه، وَقد وَثَّقَهُ غَيرهمَا وَهُوَ من فرسَان البُخَارِيّ فالرفع إِذن زِيَادَة من ثِقَة، وَقد علم مَا فِيهِ لَا جرم أَن الْحَاكِم أخرجه فِي مُسْتَدْركه، عَن أبي الْوَلِيد الْفَقِيه، نَا مُحَمَّد بن نعيم، نَا مُجَاهِد. كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ.
قلتُ: فيحتج بِهَذَا الْمَرْفُوع وبالموقوف أَيْضا لاعتضاده بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بعد حكايته كَلَام أبي دَاوُد السالف: فِيهِ مَعَ هَذَا الْمُرْسل قَول من ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة فِي بَيَان مَا أَبَاحَ الله من الزِّينَة الظَّاهِرَة، قَالَ: فَصَارَ القَوْل بذلك قويًّا. وَالله سُبْحَانَهُ الْمُوفق للصَّوَاب.

.الحديث الحَادِي بعد الْعشْرين:

رُوِيَ «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة: لَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى الْعَوْرَة، وعورتها مَا بَين معقد إزَارهَا إِلَى ركبتها».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَقَالَ فِي إِسْنَاده: لَا تقوم بِمثلِهِ الْحجَّة. قَالَ: وَعِيسَى بن مَيْمُون- يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده- ضَعِيف.
قلت: بل مَتْرُوك، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. زَاد ابْن حبَان: لَا يحْتَج بروايته، وَقَالَ ابْن مهْدي: استعديت عَلَيْهِ، فَقلت: مَا هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تحدث عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة؟! قَالَ: لَا أَعُود.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن حَفْص بن عمر، عَن صَالح بن حسان، عَن مُحَمَّد بن كَعْب- أَي: عَن ابْن عَبَّاس- وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف- يَعْنِي: صَالح بن حسان- كَمَا بَينه فِي الْمعرفَة. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي حَقه مُنكر الحَدِيث. وَنسبه ابْن طَاهِر إِلَى الْكَذِب، وَلَفظ هَذِه الرِّوَايَة: «لَا بَأْس أَن يقلب الرجل الْجَارِيَة إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِيهَا، وَينظر إِلَيْهَا مَا خلا عورتها، وعورتها بَين ركبتها إِلَى معقد إزَارهَا».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب البيع من سنَنه بِلَفْظ: «من أَرَادَ شِرَاء جَارِيَة أَو اشْتَرَاهَا، فَلْينْظر إِلَى جَسدهَا كلهَا إِلَّا عورتها، وعورتها مَا بَين معقد إزَارهَا إِلَى ركبتها». ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ حَفْص بن عمر قَاضِي حلب وَهُوَ ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب أَحْكَام النّظر: هَذَا حَدِيث لَا يَصح من طريقيه فَلَا معرج عَلَيْهِ.

.الحديث الثَّانِي بعد الْعشْرين:

عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل أصيد أفأصلِّي فِي الْقَمِيص الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم وازرره وَلَو بشوكة».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم، عَن العطاف بن خَالِد المَخْزُومِي، وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن أبي ربيعَة، عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نَكُون فِي الصَّيْد؛ أفيصلي أَحَدنَا فِي الْقَمِيص الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم وليزرره ولَو لم يجد إِلَّا أَن يخله بشوكة».
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده عَن حَمَّاد بن خَالِد، عَن أَيُّوب بن عتبَة، عَن إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع، عَن أَبِيه «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أكون فِي الصَّيْد فأصلي وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد؟ قَالَ: فازرره ولَو لم تَجِد إِلَّا شَوْكَة».
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي كَمَا ذكره المُصَنّف سَوَاء. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث العطاف بن خَالِد؛ بِلَفْظ «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي لأَكُون فِي الصَّفّ وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا الْقَمِيص أفأصلي فِيهِ؟ قَالَ: ازرره عَلَيْك وَلَو بشوكة».
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث الدَّرَاورْدِي؛ بِلَفْظ «يَا رَسُول الله، إِنِّي أكون فِي الصَّيْد وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد. قَالَ: فازرره وَلَو بشوكة».
وَرَوَاهُ شَيْخه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه من هَذَا الْوَجْه؛ بِلَفْظ: «يَا رَسُول الله أكون فِي الصَّيْد فتحضر الصَّلَاة وَعلي قَمِيص. قَالَ: شده وَلَو بشوكة».
وَفِي لفظ لَهُ: «أكون فِي الصَّيْد وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد أَو جُبَّة وَاحِدَة فأزره؟ قَالَ: نعم وَلَو بشوكة».
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من الْوَجْه الْمَذْكُور بِهَذَا اللَّفْظ، إِلَّا أَن فِي رِوَايَته: «فأشده»، أَو قَالَ: «فازرره». ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مديني صَحِيح؛ فَإِن مُوسَى هَذَا- يَعْنِي: الَّذِي يرويهِ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع- هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ أَخُو مُحَمَّد وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: وَيذكر عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يزره وَلَو بشوكة» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده نظر.
وأسنده فِي تَارِيخه الْكَبِير من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن أَبِيه، عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالْأول أصح- يَعْنِي: رِوَايَة الْجَمَاعَة لَهُ- عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن سَلمَة.
قلت: وَمَا ذكره الْحَاكِم فِي مُوسَى أَنه ابْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة تخَالفه؛ إِذْ فِيهَا أَنه مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي ربيعَة وَكَذَا قَالَه عبد الْحق فِي أَحْكَامه فَإِنَّهُ لما رَوَى الحَدِيث من طَرِيق أبي دَاوُد وَفِيه مُوسَى قَالَ: إِنَّه ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، ثمَّ أتبعه بقول البُخَارِيّ السالف: فِي إِسْنَاده نظر. لَكِن تعقبه ابْن الْقطَّان وَقَالَ: هَذَا خطأ؛ فَإِنَّهُ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ الْمَذْكُور فِي حَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ: «صل فِي الْقوس» الَّذِي قَالَ فِيهِ عبد الْحق: إِنَّه مُنكر الحَدِيث، قَالَ: وَبَيَان غلطه: أَن الحَدِيث ذكره الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة الْمَذْكُور فِي الحَدِيث؛ فَهَذَا الدَّرَاورْدِي قد بَين أَن الَّذِي حَدثهُ بِهِ هُوَ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، وَزَاد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه، عَن سَلمَة، فَحَدِيث أبي دَاوُد عَلَى هَذَا مُنْقَطع.
فَإِن قلت: وَلَعَلَّ الدَّرَاورْدِي عِنْده فِيهِ عَن الرجلَيْن، عَن المَخْزُومِي، عَن سَلمَة، وَعَن التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة. قُلْنَا: هَذَا يحْتَمل وَلَكِن لَا يُصَار إِلَيْهِ لمُجَرّد الِاحْتِمَال، وَلَا يجْزم إِلَّا بِأَن الَّذِي حَدثهُ بِهِ التَّيْمِيّ، وَإنَّهُ بَينه وَبَين سَلمَة فِيهِ وَاحِد وَهُوَ أَبوهُ، وَقد ذكر البرقاني مُوسَى بن إِبْرَاهِيم هَذَا فَذكر عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: هُوَ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم كَمَا قُلْنَا وَذكر عَن أَحْمد أَنه كره الرِّوَايَة عَنهُ، وَهَذَا كُله هُوَ النّظر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ.
قلت: وَكَذَا جزم بِأَنَّهُ مُوسَى هَذَا الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ لما أخرجه فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب من طَرِيق أبي دَاوُد قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عطاف بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن مُوسَى بِهِ. ثمَّ أتبعه بِأَن قَالَ: ومُوسَى هَذَا ضَعِيف. قلت: فَكيف يكون حسنا عَلَى مَا صدرت بِهِ أَولا؟ فَلَو سلم أَنه المَخْزُومِي فَإِنَّهُ ثِقَة كَذَا ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته فِي التَّابِعين، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس حَكَاهُ عَنهُ صَاحب الإِمام.
فَائِدَة: قد أسلفنا أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة «إِنَّا نَكُون فِي الصَّيْد» وعزى ابْن الْأَثِير فِي شَرحه للمسند إِلَيْهِ أَيْضا «فِي الصَّيْد». قَالَ: وَجَاء فِي حَوَاشِي بعض نسخ أبي دَاوُد بِخَط الْمَقْدِسِي: «إِنِّي رجل أصيد»- بِسُكُون الصَّاد وَفتح الْيَاء- وَهُوَ الَّذِي فِي رقبته عِلّة تمنع من الِالْتِفَات. قَالَ: وَلَيْسَ بِمَعْرُوف فِي كتاب أبي دَاوُد إِلَّا بِكَسْر الصَّاد من الصَّيْد، وَجمع بَين الرِّوَايَات فَقَالَ: إِن صحت رِوَايَة النَّسَائِيّ «فِي الصَّيف» وَلم تكن تحريفًا من الكتبة والرواة، فَيمكن أَن يخرج لَهَا وَجه وَهُوَ أَن الصَّيف مَظَنَّة الْحر وَالْكرب، ولاسيما فِي الْحجاز، وَلَا يُمكنهُ أَن يكثر من اللبَاس فَيقْتَصر عَلَى الْقَمِيص وَحده، وَيتْرك الْإِزَار والسراويل هربًا من الْحر، فاستفتاه عَن صِحَة الصَّلَاة فِي الْقَمِيص الْوَاحِد حَيْثُ لم يُمكنهُ أَن يلبس مَعَه غَيره من شدَّة الْحر قَالَ: وَمَعْنى رِوَايَة فِي الصَّفّ أَنه يكون يُصَلِّي فِي جمَاعَة وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَمِيص وَاحِد فَرُبمَا بَدَت عورتُه من جنبه لمن يجاوره من الْجَمَاعَة فِي الصَّفّ، فاستفتى عَن الصَّلَاة فِيهِ.
وَأما رِوَايَة ذكر الصَّيْد، فتشبه أَن يكون خصص ذكر الْقَمِيص بِحَالَة الصَّيْد لأمرين:
أَحدهمَا: أَن الصَّائِد قد يحْتَاج أَن يكون حِينَئِذٍ خَفِيفا لَيْسَ عَلَيْهِ من الثِّيَاب مَا يشْغلهُ، ويثقله ليسرع فِي عدوه خلف الصَّيْد؛ وَلِأَن الْإِزَار والسراويل خَاصَّة تمنعان من التَّمَكُّن والإسراع فِي الْعَدو لالتفافهما عَلَى الْفَخْذ والساق فَيقْتَصر الصَّائِد عَلَى قَمِيص وَاحِد لذَلِك.
الثَّانِي: أَنه يشبه أَن يكون أَرَادَ بِهِ السُّؤَال عَن الصَّلَاة فِي الْقَمِيص الَّذِي يكون عَلَيْهِ حَالَة الصَّيْد، وَمَا يَنَالهُ من دم الصَّيْد، ويترتش عَلَيْهِ مِنْهُ عِنْد ذبحه أَو تخليصه من الْكَلْب وَنَحْو ذَلِك فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: «نعم» كَأَنَّهُ عَفا عَمَّا يكون قد نَالَ ثَوْبه من ذَلِك. ثمَّ إِنَّه لما أفتاه نبَّهه عَلَى الأهم الَّذِي هُوَ أعنى بِهِ من أَمر صلَاته الْوَاجِب عَلَيْهِ الْمَشْرُوط فِي صِحَّتهَا ستر الْعَوْرَة فَقَالَ: «وليزرره عَلَيْهِ وَلَو بشوكة» ثمَّ استبعد هَذَا الْوَجْه؛ لِأَن دم الصَّيْد وَمَا يجرى مجْرَاه غير مَعْفُو عَنهُ فِي الصَّلَاة، وَهُوَ كَمَا استبعد.

.الحديث الثَّالِث بعد الْعشْرين:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وتلاوة الْقُرْآن».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ قَالَ: «بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ عطس رجل من الْقَوْم. فَقلت: يَرْحَمك الله، فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت: واثكل أمِّياه مَا شَأْنكُمْ تنْظرُون إِلَيّ فَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم عَلَى أَفْخَاذهم؛ فَلَمَّا رَأَيْتهمْ يصمتونني لكني سكت، فَلَمَّا صَلَّى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فبأبي هُوَ وَأمي مَا رَأَيْت معلِّمًا قبله وَلَا بعده أحسن تَعْلِيما مِنْهُ، فوَاللَّه مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن». أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث. فِيهِ طول، وَهُوَ من أَفْرَاده بل لم يخرج البُخَارِيّ عَن مُعَاوِيَة ابْن الحكم شَيْئا.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَا يحل» مَكَان: «لَا يصلح». وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان «إِنَّمَا هِيَ». وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «إِنَّمَا هُوَ الصَّلَاة وَالتَّسْبِيح والتحميد وَقِرَاءَة الْقُرْآن». أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَائِدَة: الثكل- بِضَم الثَّاء وَفتحهَا- فقدان الْمَرْأَة وَلَدهَا. وأمياه- بِكَسْر الْمِيم ثمَّ يَاء. والكهر: النَّهْر.

.الحديث الرَّابِع بعد الْعشْرين:

أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَإِن مِمَّا أحدث أَلا تتكلموا فِي الصَّلَاة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا نسلم عَلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة فَيرد علينا وَيَأْمُر بحاجتنا، فَقدمت عَلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَلّي السَّلَام، فأخذني مَا قدم وَمَا حدث، فَلَمَّا قضي النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة قَالَ: إِن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَإِن الله سُبْحَانَهُ قد أحدث أَلا تكلمُوا فِي الصَّلَاة فَرد عَلَيْهِ السَّلَام» قَالَ أَبُو عمر فِي تمهيده: من ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ فِي حِين رُجُوعه من أَرض الْحَبَشَة: «إِن الله أحدث أَلا تكلمُوا فِي الصَّلَاة». فقد وهم وَلم يقل ذَلِك غير عَاصِم وَهُوَ عِنْدهم سيئ الْحِفْظ كثير الْخَطَأ، وَالصَّحِيح من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه لم يكن إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وبهَا نهي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود بِمَا يُوَافق حَدِيث زيد بن أَرقم وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن سُورَة الْبَقَرَة مَدَنِيَّة، وَتَحْرِيم الْكَلَام كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد مَا أخرج هَذَا الحَدِيث فِي الْمعرفَة من جِهَة الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عَاصِم بن أبي النجُود، عَن أبي وَائِل، عَن ابْن مَسْعُود مَعَ اخْتِلَاف لَفظه؛ وَفِيه «فأخذني مَا قرب وَمَا بعد...» هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان عَن عَاصِم بن أبي النجُود. وتداوله الْفُقَهَاء مِنْهُم، إِلَّا أَن صَاحِبي الصَّحِيح يتوقيان رِوَايَة عَاصِم لسوء حفظه، ووجدا الحَدِيث من طَرِيق آخر عَلّي شَرطهمَا بِبَعْض مَعْنَاهُ، فأخرجاه دون حَدِيث عَاصِم.
قلت: وَهُوَ أحد حَدِيثهمَا عَنهُ: «كُنَّا نسلم عَلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيرد علينا فَلَمَّا رَجعْنَا من عِنْد النَّجَاشِيّ سلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَلّي، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله كُنَّا نسلِّم عَلَيْك فِي الصَّلَاة فَترد علينا. فَقَالَ: إِن فِي الصَّلَاة شغلًا».

.الحديث الخَامِس بعد الْعشْرين:

رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر، وَسلم من رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ: كل ذَلِك لم يكن، فَقَالَ: أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم. فَأَتمَّ مَا بَقِي من صلَاته وَسجد للسَّهْو».
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ إِلَى قَوْله: «لم يكن» فَقَالَ: «قد كَانَ بعض ذَلِك يَا رَسُول الله، فَأقبل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى النَّاس فَقَالَ: أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نعم يَا رَسُول الله. فأتمَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَقِي من الصَّلَاة، ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس بعد التَّسْلِيم».
وَفِي رِوَايَة: «من صَلَاة الظّهْر» بدل: «الْعَصْر».

.الحديث السَّادِس بعد الْعشْرين:

عَن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما رجعت من الْحَبَشَة صلَّيتُ مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فعطس بعض الْقَوْم فَقلت: يَرْحَمك الله، فحدقني النَّاس بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت: مَا شَأْنكُمْ تنْظرُون إِلَى؟! فَضربُوا بِأَيْدِيهِم عَلَى أَفْخَاذهم، يسكتونني فَسكت، فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يَا مُعَاوِيَة؛ إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف قَرِيبا، لَكِن لَيْسَ فِيهِ «لما رجعت من الْحَبَشَة» فِي طَرِيق من الطّرق. وَقد أخرجه مَعَ مُسلم أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأَبُو عوَانَة وَالْبَيْهَقِيّ، وَإِنَّمَا الموجودُ فِيهَا: «بَينا أَنا أصلِّى مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ عطس رجل من الْقَوْم...» ثمَّ ذكرُوا الحَدِيث كَمَا سلف. نعم هَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود كَمَا سلف قَرِيبا، بل لم أجد أحدا ذكر مُعَاوِيَة بن الحكم فِي مهاجرة الْحَبَشَة، وَقد اعتنى أَيْضا الْمَقْدِسِي بتعداد من هَاجر إِلَى الْحَبَشَة من كَلَام ابْن إِسْحَاق فَلم يذكرهُ فيهم.
فَائِدَة: قَوْله: حدقني هُوَ- بحاء ثمَّ دَال مهملتين وَالدَّال مُخَفّفَة- كَذَا وَقع فِي النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأبي عوَانَة وَالْبَيْهَقِيّ.
وَلَفظ مُسلم «رماني الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ»، واستشكلت رِوَايَة «حدقني» كَمَا ذكرته فِي تَخْرِيج أَحَادِيث «المهذَّب» مَعَ الْجَواب عَنْهَا.